مقدمة
تقع مدينة تدمر الشهيرة ذات المناخ شبه الصحراوي في سوريا، على بعد 240 كيلومترًا شمال شرق دمشق و160 كيلومترًا عن مدينة حمص التابعة إدارياً لها. (الشكل رقم 1) تشير العديد من الكتابات إلى أن إحدى قبائل العموريين أسست مستوطنة صغيرة في تدمر خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد، لكن المدينة لم تكتسب شهرتها حتى القرن الرابع قبل الميلاد، عندما أصبحت مزدهرة بقيادة قبيلة عربية كبيرة، ومرت عبرها طرق تجارية تربط أنطاكيا ببابل.
عصر القوة والازدهار في تدمر كان في القرون الميلادية الثلاثة الأولى، حيث أصبحت المركز التجاري الأكبر في الشرق. قام التجار التدمريون بجولات عالمية، كما تظهر الاكتشافات الأثرية مثل النقود التدمريّة في إنكلترا والنصوص من حضرموت وسقطرى باليمن. خلال هذا العصر، شُيدت معظم مباني تدمر، وتتميز المدينة بتراثها الهائل الذي يعكس الفخامة والترف. حاول الملك أذينة ومن بعده زوجته زنوبيا تأسيس إمبراطورية، لكن انتهت محاولتهما بهزيمة زنوبيا على يد الإمبراطور الروماني أوريليان عام 273 م.
في العهود اللاحقة جرت محاولات محلية للنهوض بتدمر مرة أخرى أبرزها حدث في عهد الإمبراطور البيزنطي جستنيان ومحاولة أخرى للأمير حسان بن بحدل الكلبي في العهد الأموي لكن لم يكتب لهذه المحاولات الاستمرار.
لم يتوقف ذكر تدمر عبر العصور حيث جاء ذكرها لدى الكثير من المؤرخين والرحالة العرب مثل ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان وابن نظيف الحموي في كتابه التاريخ المنصوري، وأول من وصل إلى تدمر من الرحالة الغربيين وتحدث عن أطلالها هو ديلا فاليه (بين عامي 1616 و1625) وتافرنييه (عام 1638). ثم روبرت وود الذي زار تدمر عام 1751 م، وذكر أن هناك 30 منزلاً داخل المعبد الكبير (معبد بل) في تدمر.
تم إدراج تدمر ضمن قائمة التراث العالمي عام 1980 بفضل آثارها الرومانية المحفوظة جيدًا، قبل تدميرها في 2015. تحمل تدمر قيمة رمزية كبيرة للشعب السوري، كونها جزءًا من ذاكرته الحية ومصدر فخر له.
سعى النظام السوري السابق إلى استغلال ملف الآثار في تدمر لتحقيق مكاسب سياسية، متجاهلاً الأضرار التي لحقت بالتراث الثقافي للمدينة. من هنا، تواصل مبادرة صوت التدمريين توثيق انتهاكات النظام السابق وجرائمه، ليس فقط بحق التراث الثقافي، بل أيضاً بحق سكان تدمر البالغ عددهم حاليا أكثر من 100 ألف نسمة، الذين هجرهم الأسد مع تنظيم داعش، فتسببوا بتشريدهم لما لقي منهم السكان من سوء المعاملة والعقاب اللاإنساني. يأتي هذا التقرير ككشف ميداني وللمرة الأولى لفريق صوت التدمريين بعد 10 سنوات من الشتات والعمل عن بُعد، ليعرض الواقع المؤلم لتدمر وسكانها التي كانت تُعرف بـ “عروس الصحراء”.
- تسلسل تاريخي للتنقيب السري ونهب التحف التدمرية حتى عام2015
بدأ التنقيب الأثري في تدمر خلال ستينيات القرن التاسع عشر أثناء حكم العثمانيين. رغم وجود قانون يمنع تصدير التراث الثقافي دون إذن، إلا أن التجار وهواة جمع التحف تنافسوا للحصول على القطع التدمرية.
في عام 1899، حصل الأمير الروسي لازاريف على موافقة السلطان عبد الحميد الثاني لنقل قطع أثرية تدمرية إلى متحف الأرميتاج في سان بطرسبرغ، كما أخذ قنصل الدنمارك مجموعة نادرة من المنحوتات التدمرية إلى متحف لي كارلسبرغ في كوبنهاجن. كانت عمليات التنقيب في ذلك الوقت غير منهجية، حيث كانت الحفريات تقلب المواقع والسويات الأثرية ولا تركز إلا على المنحوتات الضخمة والتحف المهمة.
رغم أن عمليات التنقيب أصبحت منهجية وعلمية، إلا أن الفرنسيين ساهموا بشكل كبير في نقل المنحوتات الجنائزية والتحف التدمرية إلى متحف اللوفر ومتاحف أوروبا الأخرى. في عام 1920، أصدرت حكومة الانتداب الفرنسي قانوناً للآثار في سوريا، مستنداً إلى القانون الفرنسي، ينظم البعثات الأثرية، رغم أن الاتجار بالآثار كان مسموحاً به. استمر هذا القانون حتى منتصف الخمسينيات، حين تم منع الاتجار بالآثار، وأُقر قانون الآثار السوري بصيغته الحالية عام 1963.
السنوات الأولى بعد الاستقلال من الانتداب الفرنسي شهدت وعياً من قبل السوريين لمنع الاتجار بتراثهم لكن مع قدوم عهد الأسد الأب والأبن تغير الوضع وتجرأ الكثير من المتنفذين في السلطة على الاتجار بالآثار والعبث بالمواقع الأثرية بهدف إيجاد الكنوز والتحف الثمينة . وفي هذه الفترة تم السماح للكثير من البعثات الأثرية الأجنبية العمل في تدمر مثل الألمان والسويسريين والفرنسيين والبولنديين والإيطاليين، إلى جانب البعثات المحلية.
منذ اندلاع الثورة السورية في آذار عام 2011 أصبحت آثار تدمر أكثر عرضة للنهب والتخريب، كما شهدت المدينة انفلاتا أمنيا وفوضى عارمة، عندما قام الكثير من ضعفاء النفوس وبدعم المواليين للسلطة بالتنقيب العشوائي بحثا عن التحف والكنوز.-. –
سيطرت مجموعة من المعارضة المحلية في بداية عام 2013 على واحة تدمر وبعض الأجزاء الشرقية من المدينة وحسب تقارير دائرة آثار تدمر حول الوضع العام للموقع الأثري: “ساهم بعض هؤلاء بأعمال التنقيب غير القانوني”. كما ساهمت صواريخ وقذائف قوات الأسد آنذاك بتخريب الجزء الكبير من الواحة، وعدد من المدافن، وأجزاء من جدران معبد “بل”، والبيت ذي الفسيفساء اليونانية شرقَ معبد “بل”، وأجزاء من السور الشرقيِّ والجنوبي المحيط بالمدينة، استمرت انتهاكات قوات الأسد في مدينه تدمر، خاصّة بعد شقِّ العديد من الطرق عبر الواحة والموقع الأثري مخترقة أوابدها التاريخية بحجة حماية المدينة.
آثار تدمر بين مطرقة تنظيم الدولة وسندان الأسد
قبيل اجتياح تنظيم الدولة الإسلامية ووفقا لشهادات بعض العاملين في دائرة آثار تدمر تحديداً في 1-4-2015 أوعزت السلطات السورية لدائرة آثار تدمر بتجهيز القطع النادرة والثمينة المسجلة بمتحف تدمر فتم ذلك خلال أيام. مع ذلك لم توعز السلطات السورية أمرا بنقلها حتى الساعات الأخيرة من دخول داعش إلى قلب المدينة، تحديداً الساعة التاسعة صباحا من يوم الأربعاء 19 مايو وبعد هدنة حصلت ما بين طرفي النزاع تمَّ نقل جزء من هذه القطع إلى دمشق عبر شاحنة قلاب تعود ملكيتها لمتحف تدمر، والجزء الأكبر ترك لمصيره لدى عناصر التنظيم الذين أقدموا على تكسير ما طالته أيديهم من قطع أثرية في متحف تدمر.
سيطر تنظيم داعش على مدينة تدمر بتاريخ 19/5/2015 بعد معارك يشكك المحليون بجديتها مع قوات الأسد انتهت بتسليم مدينة تدمر ومحيطها لداعش. إلى أن تمكنت قوات الأسد من استعادتها بدعم روسي وإيراني في أذار 2016 ليعود التنظيم مرة أخرى ويسيطر على المدينة في كانون الأول من العام ذاته، إلا أن تم طرده منها نهائياً في أذار 2017 لترزح تدمر مجددا تحت سيطرة الأسد وحلفائه.
خلال غزو داعش قام مقاتلوه بتدمير الكثير من القطع الأثرية في متحف تدمر ووضع متفجرات في المباني الأثرية. مما أدى إلى إلحاق أضرار جسيمة بمعبد بعل شمين، ومعبد بل، والتترابيل, والمقابر البرجية والمنزلية والأرضية. أما قوس النصر فقد تعرض لقصف من قبل الطيران الحربي التابع لنظام الأسد وحلفائه الروس مما أسقط حجارته التي ظلت محتفظة بأحجامها الكبيرة ولم تتفتت كباقي المباني التي تعرضت للتفجير بمواد متفجرة. والقصف أيضا طال متحف المدينة حيث دمر جزء من سطح المبنى. كما قصف ودمر مدخل قلعة تدمر التي تطل على المدينة الأثرية. واستخدم مسرح تدمر لتصوير عمليات الإعدام التي يقوم بها عناصر التنظيم. (الشكل رقم 2)
أعظم الكوارث الناتجة عن غزو داعش لتدمر كانت النزوح الكلي للسكان، الذين تجاوز عددهم 80 ألف نسمة آنذاك. وقد نجم هذا النزوح عن سوء المعاملة والعقاب اللاإنساني من عناصر داعش، بالإضافة إلى القصف المستمر من قوات النظام السوري لاستعادة السيطرة على المدينة. في تلك اللحظات، واجه السكان الموت بكل أشكاله، وكانت فرصتهم الوحيدة للبقاء هي الفرار.
فر الناجون من الصراع إلى المدن التي كان يسيطر عليها نظام الأسد مثل حمص ودمشق، وكذلك المدن التي تسيطر عليها المعارضة السورية مثل إدلب ومعرة مصرين وكفر دريان والدانا والباب ومنبج … إلخ. كما تمكن جزء من النازحين التدمريين الوصول إلى الأردن في الجنوب وتمكن قسم آخر عبور الحدود التركية والاستقرار في مدن تركية مثل هاتاي وغازي عنتاب ومرسين واسطنبول. تمكن عدد منهم متابعة الطريق نحو الدول الأوروبية مثل ألمانيا وهولندا والسويد.
الجرائم البشعة التي ارتكبها تنظيم الدولة في مدينة تدمر ولدت تعاطفاً دولياً واسعاً مع المدينة.
لأمر الذي استغله نظام الأسد في محاولة لتلميع صورته وتقديم نفسه على أنه المخلص والمنقذ لآثار تدمر. حيث باركت العديد من الدول والجهات هذا الإنجاز متناسية جرائم نظام الأسد بحق الأثار السورية وسرعان ما أعلن النظام عن نيته في إعادة تأهيل وترميم مدينة تدمر الأثرية وبورك هذا الإعلان من قبل الحليف الروسي حيث تم توقيع العديد من مشاريع الترميم مع جهات روسية عدة كمتحف الأرميتاج، والأكاديمية الروسية للعلوم، أبرزها مشروع ترميم قوس النصر والذي أعلن عن ترميمه على ثلاث مراحل بالتعاون مع الأمانة السورية للتنمية ووزارة الثقافة السورية. حيث تم إنجاز المرحلتين الأوليتين وهما فرز الأحجار وتوثيقها وإعداد المخططات. في حين تأخر الشروع في تنفيذ المرحلة الأخيرة من إعادة بناء القوس والتي كانت مقررة في شهر كانون الأول من عام 2024، بحسب مدير مركز إنقاذ الآثار التابع للأكاديمية الروسية للعلوم، لكن ذلك لم يحدث بسبب انتصار المعارضة السورية وسقوط نظام الأسد.
أيضا كانت هناك شراكة سورية روسية لترميم واجهة مسرح تدمر، حيث جرى إدارة الركام وتوثيق الحالة الراهنة. في حين أنهي ترميم نبع أفقا التاريخي من قبل المديرية العامة وجمعية الحفاظ على التراث التاريخي والثقافي الروسية، كما وقع متحف الأرميتاج اتفاقية مع متحف عمان الوطني لترميم 200 قطعة أثرية سورية منها منحوتات تدمرية.
وبعيدا عن الروس وبتمويل أوربي – بولندي جرت أعمال ترميم لتمثال أسد اللات والذي تعرض للضرر عام 2015 بعد سيطرة تنظيم الدولة حيث جرى نقل قطع التمثال إلى متحف دمشق عام 2017. وتم عرضه في حديقة متحف دمشق الوطني.
الواقع الحالي في تدمر بعد التحرير وسقوط نظام الأسد
في 8 كانون الأول 2024، حققت سوريا حريتها بإسقاط نظام الأسد، مما أثر بشكل إيجابي وسلبي على مستقبل المواقع الأثرية، وخاصة تدمر. يتمثل الجانب السلبي في وجود فراغ أمني قد يزيد من عمليات النهب والتخريب، مما يتطلب من الإدارة الحالية تكثيف الجهود لحماية الموقع الأثري. في المقابل، يشكل التغيير في السلطة نهاية لحقبة فاسدة قد يسهل حماية وإعادة إعمار تدمر وترميم آثارها، وإعادة تأسيسها كوجهة سياحية في سوريا.
خلال زيارة ميدانية لعضو مبادرة صوت التدمريين “محمد فارس” بتاريخ 5/1/2025، تم إجراء مشاهدات أولية لتقييم الواقع الحالي للموقع، بدءًا من:
- السكان والمدينة السكنية (الظاهرة)
شهدت تدمر في عامي 2015 و2016 قصفًا عنيفًا من الطائرات الحربية التابعة لقوات الأسد وحلفائه تحت ذريعة وجود عناصر داعش، مما أدى إلى تدمير شبه كلي للمدينة. العديد من المباني تحولت إلى ركام، وأُصيبت أخرى جزئيًا، مما أجبر السكان على الإخلاء الفوري. في عام 2015، اضطر جميع سكان تدمر للنزوح إلى مدن وبلدان الشتات، وذلك بعد أن واجهوا تهديدات متعددة؛ إذ لم يكن غزو داعش وحده مصدر القلق، بل أيضًا قصف قوات الأسد للأحياء في محاولتها لاستعادة السيطرة. خلال تلك اللحظات، كان السكان يعانون من الموت بكافة أشكاله، وكانت الهجرة هي السبيل الوحيد للبقاء.
يذكر الكاتب والصحفي محمد العبد الله لموقع جزيرة نت الإخباري -وهو من أبناء تدمر- ” أن سكان المدينة التي يحلو للسوريين تسميتها “عروسة الصحراء” هُجّروا قسرا من بيوتهم بسبب القصف الجوي المتواصل، فأصبحت المدينة شبه خالية من السكان، بعد أن نزح من بقي من سكانها ومن لجأ إليها سابقا باتجاه البادية، حيث يعيشون في ظروف بالغة السوء”.
الصحفي محمد إدريس يصف الدمار الذي لحق بأحياء مدينة تدمر: ” بعد أن حولها النظام وداعش إلى تلال من الركام ومساكن للأشباح، ومؤخراً ثكنات عسكرية للقوات الإيرانية منذ عام 2016. عدد كبير من المنازل مدمرة والشوارع خالية، بينما بدت أحياء المدينة وكأنها مساكن للأشباح”.
بعـد سـقوط الأسد في 8 كانون الأول 2024، بدأت مئات الأسر النازحة في العودة إلى مدينتهم تدمر. ويتمثل الوضع الحالي للمدينة السكنية والسكان في مدينة تدمر، وفقًا لما يصفه محمد فارس، متطوع في مبادرة صوت التدمريين بقوله: “حالة متدنية للغاية. حيث تشير التقديرات إلى أن 80% من المباني إما مدمرة أو معرضة للسقوط، ولاتزال مخلفات الأسلحة والألغام منتشرة في كافة الأرجاء فاليوم مثلا قتل شخصان بتفجير أحد الألغام في الحي الشمالي من المدينة. حتى الآن لم تدخل أي قوات أمنية تتبع للإدارة الحالية لحماية المدينة وتنظيم شؤون السكان
ومن ناحية أخرى، الخدمات الأساسية من مياه وكهرباء وإنترنت وتعليم وصحة تكاد تكون معدومة. يعاني السكان من فقرٍ شديد، إذ لا يستطيع الكثيرون تأمين احتياجاتهم الأساسية، ويبلغ عدد الوافدين نحو 10 آلاف نسمة، أي ما يعادل نحو 10% من العدد الإجمالي لسكان تدمر الذي يصل إلى 100 ألف نسمة والآن يحاول أبناء المدينة جمع الجهود لتأمين عودة أهلنا في مخيم الرقبان الصحراوي حتى الآن أثمرت الجهود على إعادة 60 عائلة فقط من أصل 1500 عائلة هناك. ولا يتوفر أي فرص عمل ويعتمد هؤلاء العائدون على مساعدات بسيطة من المغتربين لتوفير الطعام والمياه، ويستخدمون أدوات بدائية لإزالة الأنقاض التي تعيق دخولهم إلى بقايا منازلهم. لا توجد خدمات صحية فهناك مشفى ولكن دون كوادر أو معدات. تم افتتاح مدرسة ابتدائية وأخرى إعدادية حديثًا، ولكن بموارد ضئيلة جدًا.
ورغم هذه الظروف الصعبة، فأنا متفائل حول مستقبل الآثار من خلال ما يتداوله السكان، حيث يؤكدون عزمهم على حماية الآثار والمتحف وعدم السماح لأحد بالعبث بتراثهم، لكن هذا لا يخلو من محاولات فردية للعبث والحفر السري في الموقع”.
على الرغم من الظروف المأسـاوية والتحديات الكبيرة، لا يزال الكثيرون منهم يرددون: “وطن مدمر أفضل من قهر الغربة”. (الشكل رقم 3)
- الواحة
تعد الواحة الرئة الأساسية لسكان تدمر قديماً وحديثاً، وتتميز ببساتينها المحاطة بجدران من طوب اللبن. تعتمد الواحة في ريها على مياه نبع أفقا، بالإضافة إلى ري قسم منها بواسطة نبع القناة الممتد من أبو الفوارس غرب تدمر 7كم. يحتفظ كل شخص من تدمر بذكريات جميلة في الواحة؛ كبار السن يتذكرون لذة شرب الشاي المغلي على الحطب بعد التعب من البستنة، والنساء لا ينسِينَ الأوقات الجميلة التي قضينها مع الأهل أو الصديقات في البساتين. هذه الذكريات أصبحت جزءاً من ماضي التدمريين الذين تحولوا إلى نازحين في بلاد الشتات بعد مايو 2015. زاد من معاناتهم حرائق 25 أيار 2020 التي أحرقت من قبل نظام الأسد بما يقارب نصف مساحة واحتهم البالغة 400 هكتار، في الجزء الغربي منها تحديدا. حُرموا من إنقاذ “رئة” حياتهم بسبب النزوح، ولم يكن أمامهم سوى مشاركة صور ومقاطع فيديو للنيران بينما كانوا يشاهدون بألم كيف دُمرت آخر عناصر ثلاثية الصحراء الجميلة(بالإضافة إلى السكان وموقع تدمر الأثري)، دون أن تنجو من مأساة الصراع السوري.
بالإضافة إلى القسم المحروق، فإن الأشجار المتبقية في الواحة التي لم تصل إليها مياه النبع قد جفت وتحولت إلى حطب يابس. حاليًا، يحاول بعض أصحاب البساتين العائدين من النزوح، بوسائل بسيطة، إنقاذ ما تبقى من أشجار النخيل والزيتون في بساتينهم. (الشكل رقم 4)
- متحف تدمر الأثري
وفقا للكشف الميداني فإن حديقة المتحف تضم العديد من التماثيل الثقيلة والأسرة الجنائزية، معظمها محطمة أو مكسورة بينما لا يزال البعض بحالة جيدة. تعرضت البنية الإنشائية للمتحف لقصف جوي أدى إلى فتحات في السقف، تم إغلاقها بألواح معدنية. المعروضات الحالية تتكون من قطع مشوهة أو محطمة، وقد تم نقل قسم من المقتنيات إلى متحف دمشق قبيل سيطرة تنظيم الدولة، ولم يتم استعادتها بعد. المتحف متوقف عن العمل، لكن عناصر الحراسة من مديرية الآثار وبعض المتطوعين المحليين يقومون بحراسته دون دعم من الإدارة الجديدة رغم الحاجة لذلك. كما لا يوجد كادر إداري مشرف على المتحف في الوقت الحالي. (الشكل رقم 5)
- قلعة تدمر (القلعة الأيوبية)
تضررت جدران القلعة وانهارت أجزاء من أبراجها العلوية، خاصة في الجوانب الشمالي والشرقي والجنوبي، بسبب قصف الطيران الحربي خلال سيطرة تنظيم الدولة على المدينة عام 2015. يصعب الوصول إلى داخل القلعة نتيجة الانهيارات عند المدخل، ولكن تم العثور على آثار تموضع عسكري تشمل دشمًا سميكة من الرمل وبعض المباني من البلوك مزودة بمدافع تخلى عنها عناصر الأسد عند انسحابهم. (الشكل رقم 6)
- الموقع الأثري/ المدينة القديمة/
1 – معبد بعل شامين
الذي تم تفجيره من قبل تنظيم داعش في (23 آب/أغسطس 2015) والذي تحول إلى ركام من الحجارة الصغيرة والرماد ولم تجري له أي أعمال توثيق أو ترميم تذكر أجريت دراسة نظرية بعنوان “معبد بعل شمين ورشة عمل رؤية تدمر بعد التحرير” إشراف: د. عبير عرقاوي، بهدف توثيق تاريخ المعبد وتوصيف عناصره المعمارية ومقتنياته، وتحديد البعثات التي عملت على المبنى منذ اكتشافه (الشكل رقم 7)
2 – معبد بل
تم تفجير حرم معبد بل من قبل داعش في (30 آب/أغسطس 2015) وتحول الحرم إلى جانب أعمدة الأروقة المحيطة إلى ركام ولم يتبقى منه سوى دعامات المدخل إلى السيلا، أما جدران المعبد الخارجية فلا تزال بحالة جيدة نوعا ما مع بعض الأضرار في أعمدتها وحجارتها وعناصرها الزخرفية
جرت محاولة روسية من قبل الأكاديمية الروسية للعلوم عام 2016 لإنشاء نموذج رقمي ثلاثي أبعاد تمهيدا لإعادة إعمار معبد بل لاحقا (الشكل رقم 8)
- 3 – قوس النصر والشارع الطويل
انتشرت رواية بين السكان المحليين، تحديدا في 4 تشرين الأول/أكتوبر مفادها: أن عناصر تنظيم الدولة قاموا بتفجير قوس النصر وثلاثة أعمدة في الشارع الطويل الواصل بين قوس النصر والتترابيل. مع ذلك الكشف الميداني على القطع الحجرية المتساقطة من القوس لا تشير لتعرضها للتفجير، وإنما على الأرجح سقطت الحجارة بسب سقوط إحدى قذائف الطيران الحربي بجانبها
من ناحية أخرى يلاحظ وجود أعمال فرز وترقيم للقطع المتساقطة من قوس النصر على الأغلب من قبل جهات روسية تمهيدا لأعمال ترميمه. كما شوهدت أعمال حفر وتنقيب غير قانوني على الشارع الطويل، لم تكن موجودة قبل عام 2015. (الشكل رقم 9, 10)
4 – التترابيل
من خلال الكشف الميداني على المشانق الأربعة أو ما يعرف بالتترابيل تبين أنها تعرضت للتفجير مما أدى إلى تحويل أعمدتها إلى كومة من الركام والكسر الحجرية المتناثرة. لا يوجد مؤشرات على إجراء أي توثيق أو ترقيم للحجارة (الشكل رقم 11).
5 – المسرح
في 3 تموز عام 2015، نفذ عناصر التنظيم داخل مسرح تدمر الأثري جريمة إعدام جماعي بحق أشخاص زعموا أنهم ينتمون لقوات الأسد، ومن خلال الكشف الميداني على المسرح تبين أن هناك إنهيار في واجهة المسرح (القسم العلوي من الأوركسترا) والكتل الحجرية الكبيرة المتساقطة لا تدل على حصول تفجير بمادة TNT التي اعتاد على استخدامها عناصر التنظيم لتفجير معالم تدمر، وإنما يرجح تعرضها لقصف صاروخي. جرت محاولات سورية روسية مشتركة لإعادة ترميم واجهة مسرح تدمر وتم إنجاز نموذج رقمي ثلاثي الأبعاد للمسرح وأعمال فرز وترقيم للحجارة المتساقطة تمهيدا لإعادة ترميمها (الشكل رقم 12)
6 – التحصينات الغربية ومعسكر ديقلوسيان
في أعلى التلة المعروفة (بجبل الحصينيات) يوجد تموضع عسكري تم الانسحاب منه مؤخرا، لكن التعدي الأهم هو وجود أعمال حفر سري واسع في موقع معسكر ديوقلسيان حيث جرى حفر منطقة واسعة نسبياً بشكل يدوي على الأغلب. كشفت هذه الحفر عن بقايا معمارية تضم أساسات حجرية وكسر حجرية تحمل زخارف متنوعة من أسرة جنائزية وبعض كسر لمنحوتات نصفية جنائزية، المثير للتساؤل أن منطقة الحفر تقع بالقرب من التحصينات العسكرية لقوات نظام الأسد في الأعلى، مما يشير إلى أن أعمال الحفر والتخريب هذه تمت تحت إشراف قوات النظام. (الشكل رقم 13)
7 – المدافن الغربية
وفقا لوسائل الإعلام وعلى مرأى الباحث المحلي حسن علي الذي شاهد من سطح منزله عناصر تنظيم الدولة الإسلامية وهم يقومون بتفجير العديد من المدافن وخصوصاً البرجية التي تم تدمير ما يقارب عشرة منها ومن بينها إيلا بل وعتنتان (أقدم مدفن برجي 9 قبل الميلاد) كما فجرو عدداً من المدافن البيتية والأرضية كان ذلك في شهر آب من عام 2015. – الكشف الميداني يظهر تحول هذه المدافن إلى أكوام من الركام باستثناء البعض التي لازالت بحالة جيدة ولم تتعرض للتفجير (الشكل رقم 14)
8 – المدافن الشمالية
عام 2017 تم إنشاء قاعدة روسية قرب مضمار الهجن في منطقة المدافن الشمالية حيث جرى تسويات وتجريف مساحات واسعة لإنشاء قاعدة عسكرية ومهبط طائرات مروحية، كما يوجد عدد من التحصينات لنقاط عسكرية بمحيط القاعدة. إضافة إلى تجريف المنطقة لإنشاء سواتر ترابية على جانبي طريق إمداد القاعدة ضمن الحرم الأثري وربط جميع القطعات العسكرية ببعضها. أما في الوقت الراهن فقد تم إخلاء هذه المواقع ولا يوجد أي تواجد عسكري أو مدني هناك. كما شوهدت أعمال حفر سري من داخل الأسوار الشمالية. (الشكل رقم 15,16)
9 – متحف التقاليد الشعبية (مركز الاستعلامات السياحية)
مغلق حاليا لكن البناء لازال بحالة جيدة من الخارج كما يبدو (الشكل رقم 17)
- توصيات ومقترحات
- تحتاج المباني التي تم توثيقها وبقية المدينة الأثرية التي تبلغ مساحتها مع الواحة ما يقارب 12كم مربع إلى تكثيف الجهود وإرسال فريق متخصص لتوثيق الوضع الراهن بدقة وتقدير نسبة الضرر وتقييم الأضرار الحاصلة وإعادة توثيق وتسجيل ما تبقى من عناصر معمارية محفوظة. فريق صوت التدمريين بالتعاون مع المديرية العامة للآثار والمتاحف السورية قادرين على إتمام هذا العمل في حال تم تأمين الدعم اللازم له.
- كما تحتاج المدينة السكنية إلى تقييم للأضرار وإعادة تأهيل شامل للبنى التحتية والمباني السكنية ليتمكن السكان الذين يشكلون العنصر الثالث من ثلاثية التراث مع التراث الثقافي والتراث الطبيعي العودة إلى منازلهم.
- الوضع الحالي يتطلب تحرك عاجل من الجهات الرسمية والمنظمات الإنسانية ومنظمات المجتمع المدني للمساعدة بتأمين احتياجات هؤلاء السكان من قوى أمنية لحماية المدينة وتنظيم شؤون سكانها وفرق لإزالة الألغام ومخلفات الأسلحة وماء وغذاء وصحة وتعليم وفرص عمل ومبالغ عينية ربما على شكل قروض داعمة ليتمكنوا من إصلاح منازلهم وتشجيع الأخرين على العودة إلى تدمر.
- التغيير السياسي في سوريا وانتصار مكونات الثورة السورية بعد إسقاط الأسد في 8/12/2024 يجب أن يدفع الإدارة السورية الجديدة لإعادة تقييم الأولويات والخطط السابقة، خاصة فيما يتعلق بالمشاريع المشتركة مع روسيا. هذه المشاريع تبدو وكأنها تحاول إخفاء جرائم القصف الروسي التي ساعدت نظام الأسد في تدمير تدمر وممتلكاتها الثقافية، مما يستدعي البحث عن شراكات محلية ودولية أكثر نزاهة لإعادة تأهيل المدينة وترميمها.
- تأمين حماية المدينة الأثرية ومنع النهب والتخريب.
- يجب على الجهات المعنية بإعادة ترميم الإرث الثقافي أن تساهم في إعادة إعمار المدينة السكنية لمساعدة المجتمع المحلي على العودة إلى تدمر.
- وضع القوانين والخطط التي ترعى هذا التراث، وتجرم المساس به.
- نشر التوعية بقيمة هذا الإرث الثقافي بين التدمريين، واعتماد سياسة عامة تستهدف إبراز الدور الذي يؤديه التراث الثقافي بشقيه المادي وغير المادي في المجتمع وإدماج صونه في البرامج التخطيطية لصناع القرار وتكثيف فرص استدامته.
- إشراك المجتمع المحلي في اتخاذ القرارات التي ستحدد مستقبل مدينتهم تدمر، وعلى الجهات الراعية أن تأخذ رأيهم بعين الاعتبار بكيفية استعادة تراثهم، وتشجيع النازحين منهم للعودة إلى بلدهم ليكونوا حماة تراثهم.